Research Papers



نهضة الدراسات الأدبية المقارنة
 في العصر الحديث
بقلم بشير بولاكال،
الأستاذ المساعد، الكلية الحكومية، كاسركوت.

الدراسة المقارنة أو الموازنة مصدر خصب من مصادر المعرفة الانسانية. فالانسان قد اتخذ المقارنة في مختلف دراساته سبيلا للوصول إلى الحقائق الجوهرية المتعلقة بميادين بحثه. ففي علم الحيوان مثلا قارن الدارسون بين الحيوانات المختلفة فصنفوها إلى أجناس وأنواع.
أما اللغات هي الأدوات للتعبير عن الأدب، وخضعت لمثل هذه الدراسات المقارنة، فكان لها أثرها البالغ في التعرف إلى أصولها، والاحاطة بما تحقق لها من تطور خلال العصور. لقد طبقت الدراسة المقارنة على المفردات اللغوية، كما طبقت على المركبات، وهي التي تعرف في اللغة العربية بالجمل، وكان من نتائج تطبيق الدراسة المقارنة على المفردات، أن وجد لدينا علم اللغة بفروعه المتعددة، كما كان من نتائج تطبيقها على المركبات في اللغات المختلفة، أن وجد لدينا دراسات كثيرة في النحو المقارن. ومما يجدر الانتباه إليه أن الدراسات المقارنة في العلوم البحتة والتطبيقية تستند إلى وحدات مادية ملموسة تدرس على أساس من واقعها المحسوس.
أما الأدب فيمثل مشكلة قائمة بذاتها تختلف عن الحالات السابقة التي أشرنا إليها. إن الدراسة الأدبية المقارنة لا تتناول قضايا محسوسة بل هي تدور حول تأثيرات قد تتضح وقد تختفي. ولا يكون وضوحها بالضرورة مقتبسا من مميزات الأعمال الأدبية المقارنة، بقدر ما يكون مقتبسا من قرائن خارجية، كأن يعترف مؤلف بأنه قد تأثر بغيره في عمل معين، أو تقوم قرينة خارجية على هذا التأثر.
أما الاقتصار على مجرد المشابهة فكثيرا ما قاد إلى أخطاء كان منشؤها الاقتناع بظواهر الأمور بدون غوص إلى بواطنها، فكثيرا ما قال بعض الدارسين باقتباس "دانتي" ((Danty منظومته المعروفة بالكوميديا الإلهية من رسالة الغفران للمعري. وإن الدراسة الجادة المتعمقة لهذين العملين تكتشف غن زيف مثل هذا الادعاء الذي نادى به قائلوه على أساس من ظاهر الحال، ومهما يكن الأمر فقد جد الباحثون في العصر الحديث لوضع الأسس العلمية التي يمكن أن تقوم عليها دراسة الأدب المقارن.
إن الأدب المقارن في صورته الحالية ثمرة لتطور الدراسات الأدبية في العصر الحديث. لقد اتخذت المقارنة سبيلا للبحث في كثير من العلوم وكان لابد لها أن تجد سبيلها إلى الدراسات الأدبية. وليس معنى ذلك إن المقارنة في الدراسات الأدبية من مبتكرات هذا الزمان، فقد عرفت المقارنة ضمن نطاق الأدب الواحد، وكذلك بين الآداب المختلفة منذ أزمان بعيدة، ففي أدبنا العربي مثلا نجد كتابا للآمدي بعنوان "الموازنة بين أبي تمام والبحتري" كما نجد للجرجاني بنوان "الوساطة بين المتنبي وخصومه" وهذه دراسات داخل نطاق الأدب العربي قامت على الموازنة. ونقرأ لأبي هلال العسكري في كتابه "الصناعتين"[1] ملحوظات على فن الشعر عند العرب والفرس. فالإلتفات إلى الآداب الأخرى كان معروفا منذ أزمان بعيدة، لكن العصر الحديث كان له الفضل في وضع أسس جديدة لهذه الدراسة، محاولا إرساء قواعدها وتأصيل مناهجها.
العوامل التي أدت إلى نهضة الدراسات الأدبية المقارنة:
          أما العوامل التي أدت إلى نهضة الدراسات الأدبية المقارنة فهي ما يلي:
1)     يجيئ في مقدمة هذه العوامل توثق الروابط بين أرجاء العالم، نتيجة لما استطاع تحقيقه من تقدم علمي، فوسائل المواصلات السريعة قد ربطت بين الأمم ربطا وثيقا وقربت المسافات بينها، وعاونتها على عقد أواصر أقوى مما كانت تستطيعه في سالف الأزمان.
2)     انتشار فن الترجمة واطلاع الأمم المختلفة على الآداب الأجنبية سواء منها ما كان وثيق الاتصال بأدبها أو ما كان بعيدا عنه، والترجمة تستثير الشوق لمعرفة المزيد عن الأدب الأجنبي الذي تنقل نصوصه إلى لغة الأدب القومي، وفي هذا ما يحث الدارسين على التوسع في دراسات الآداب الأخرى ومقارنتها بالأدب القومي.
3)     إن الطباعة قد يسرت الحصول على الكتب بأبخس الأثمان، وقد اتسع تبادل الكتب بين الأمم منذ اختراع الطباعة، وقد شجع هذا التوسع في التبادل على دراسة الأمم الأجنبية ومحاولة النفاذ إلى أسرارها، والعمل على اكتشاف الصلة بينها وبين الأدب القومي.
4)     تمخضت الدراسات العلمية والفلسفية والاجتماعية في العصر الحديث عن تفسيرات جديدة للأدب. وهذه التفسيرات قد مهدت السبيل للتوسع في دراسة الأدب من حيث صلته بغيره من الفنون الجميلة، وكذلك بمختلف فنون المعرفة، فنشأت دراسات تبين مكان الشعر من الفنون الجميلة أو صلة الدراسات النفسية بالأدب.   
الأدب المقارن ومجالات البحث فيه:
ولسنا نعني بما قدمنا إن الأدب المقارن قد نال اعترافا به في كل أمة من أمم العصر الحديث، بل إن الواقع أن عددا قليلا من أمم العالم هي التي عُرف عنها التوسع في مثل هذه الدراسة. لقد ازدهرت الدراسات الأدبية المقارنة في فرنسا وبخاصة في جامعة السوربون، حيث ظهر كبار الأساتذة الذين برزوا في دراسة الأدب المقارن، وحاولوا أن يضعوا له من القواعد والأصول ما يحدد أهدافه، ويسدد طرق البحث فيه.
لقد عنيت المدرسة الفرنسية عناية كبيرة بتحديد مجالات البحث في الأدب المقارن. وظهر من أعلام المدرسة الفرنسية أساتذة مثل "جوبار، وفان تيجم، وبالدنسبرجر، وغيرهم"، والاتجاه العام لدى المدرسة الفرنسية هو أن الأدب المقارن تقتصر على دراسة الآداب المختلفة دراسة مقارنة. وعندهم إن اللغة هي التي تعين شخصية الأدب الذي يقارن بغيره من الآداب. فلا يجوز أن تعد من الأدب المقارن دراسة مقارنة تدور حول مدرستين أدبيتين ضمن نطاق أدب اللغة الواحدة، بل أن من الضروري في الدراسة المقارنة أن يكون هناك إختلاف في لغة الأدبين اللذين نقارنهما. كما أنه من الضروري أن يكون هذان الأدبان قد وقع بينهما لقاء تاريخي. أما التشابه الذي قد نراه من غير أن يكون مبنيا على أساس من اللقاء التاريخي فلا يعتد به في دراسة الأدب المقارن.
وقد قامت في ألمانيا مدرسة شبيهة بالمدرسة الفرنسية اهتمت بدراسة آداب الأمم المختلفة دراسة مقارنة على أساس تلاقيها التاريخي، برغم اختلاف لقائها.
ولم تعرف الجامعات الانكليزية دراسة للأدب المقارن على النحو الذي ازدهر في فرنسا، بل أن الدراسة المقارنة تجري حيث يوجد مجالها، وتسمى باسمها. فإذا درس أثر الآداب الكلاسيكية على الأدب الانكليزي فهذه الدراسة تدور على أساس منهجي وتسمى باسمها، أما جمع الدراسات المقارنة كافة في ظل دراسة تعرف بالأدب المقارن، فهذا ما لا تعرفه الجامعات البريطانية، أو على الأقل لم يدخل ضمن برامجها. فبرغم كثرة الدراسات المقارنة التي قام بها العلماء الانكليز لم نجد علما يظهر عندهم باسم الأدب المقارن.
أما الولايات المتحدة فهي من الدول التي تستخدم مصطلح الأدب المقارن، وتقوم بعض جامعاتها بإدراجه ضمن برامجها التعليمية. والأدب المقارن في الوولايات المتحدة يتناول جنبات أرحب من البحث. فعند دارسي هذا الفن إن الأدب المقارن يستوعب كل الدراسات المقارنة بين الآداب المختلفة أو بين الآداب وغيرها من الفنون بوجه خاص، وبينها وبين غيرها من المعارف الانسانية بوجه عام، فالأدب المقارن في أمريكا يمكن أن يتناول الحركة الرومنسية في الشعر والموسيقى كما أنه قد يتناول الأدب وعلم النفس أو الأدب والأخلاق وهكذا، فالمنهج الأمريكي يدخل في اعتباره ترابط الدراسات الانسانية، وضرورة البحث المقارن لاستجلاء ما يغمض من جوانبها[2]، فنحن إذن نستطيع أن نتناول الأدب المقارن من نواح مختلفة تختلف ضيقا واتساعا بحسب نظرتنا إليه.
الأدب المقارن في معناه وأهدافه:
        لا يكون من المزيد إذا قلنا إن المدرسة الفرنسية تهتم بدراسة الأدب المقارن في معناه الخاص. ونقصد بالمعنى الخاص هذا إن هذه الدراسة لا تجاوز حدود الدراسة الأدبية، فيما تعتبره ضمن ميادين الأدب المقارن.
          فالأدب المقارن لا يتجاوز دائرة الآداب إلى غيره من الفنون أو المعارف، إنه يهتم بمقارنة أدب معين بأدب آخر أو بعدد من الآداب الأخرى، وهو كذلك يهتم بمقانة عمل أدبي في إحدى اللغات بعمل مناظر له في لغة أخرى.
          وهكذا لا تدرس المذاهب الفنية التي شاعت في فنون مختلفة وآداب متعددة إلا ضمن نطاق الآداب، أما المقارنة بين الأدب وغيره من الفنون فليست عند الفرنسيين مما يدخل ضمن موضوعات الأدب المقارن. وليس معنى ذلك أن الفرنسيين لا يعرفون مقارنة الآداب بالفنون. فعند الفرنسيين ألوان متعددة من هذه الدراسة، لكنهم لا يعتبرونها من موضوعات هذا العلم، الذي يعرف في جامعاتهم بالأدب المقارن. على أن دراسة الآداب دراسة مقارنة يجب – عند المدرسة الفرنسية – أن تتوفر لها الأسس الآتية:
أولا: أن يكون هناك اختلاف في اللغات بين هذه الآداب. فليس من دراسات الأدب المقارن عندهم أية دراسة تقارن بين الأدب الانكليزي والأدب الأمريكي مادامت اللغة واحدة في هذين الأدبين. وليس من الأدب المقارن دراسة الأدب الفرنسي مقارنا بما ينتجه بعض مواطني "كندا" من أدب باللغة الفرنسية.
ويختلف الدارسون الأمريكيون مع الفرنسيين حول هذه المسألة، وطبيعي ألا يعتبر الأمريكيون أدبهم مجرد امتداد للأدب الانكليزي. ومن هنا كان للأمريكيين موقف من هذا الموضوع بني على أساس أن الأدب المقارن يهتم بدراسة الأدب في صلاته التي تتعدى حدود القومية، فالقومية وليست اللغة هي التي تحدد نوع الأدب. وعلى هذا تكون دراسة الأدبين الانكليزي والأمريكي دراسة مقارنة مما يدخل ضمن نطاق الأدب المقارن. وربما يتوقفون مترددين إزاء صلة أدبهم بالأدب الانكليزي إبان فترة الاحتلال الانكليزي لأمريكا، فلا يصرون على الفصل بين الأدبين خلال هذه الفترة.
أما عصور الاستقلال فهي عندهم عصور تطور فيها الأدب الأمريكي وأصبح منفصلا عن الأدب الانكليزي. فما الاستقلال السياسي الذي يكون أساسا لاختلاف الأدب، وهل نعتبر الكيانات السياسية المنفصلة للدول العربية مثلا مصدرا لخلافات جوهرية بين آداب العرب في مختلف الدول العربية؟ هل تعتبر من موضوعات الأدب المقارن أية دراسة توازن بين الشعر العربي الحديث في مصر والشعر العربي الحديث في لبنان؟.
الواقع إن الحدود السياسية لا يمكن أن تكون اعتبارا كافيا للقول بخلافات جوهرية بين الآداب، تجعل منها آدابا مختلفة تدرس دراسة مقارنة كما هو الحال بين الآداب المختلفة للغات. إنني أميل إلى اعتبار مدارس الشعر في الأقطار العربية المختلفة، مدارس متعددة لأدب واحد، تدرس ضمن نطاق هذا الأدب، ولا تعد من مباحث الأدب المقارن.
وهكذا الحال بالنسبة لأدبنا العربي في عصوره السالفة. فالمقارنة بين الأدب العربي في بغداد والأدب العربي في الأندلس ليست من الدراسات التي تدخل ضمن نطاق الأدب المقارن. إنها دراسات لأدب واحد في بيئاته المختلفة وليست مقارنة بين أدبين مختلفين.
ثانيا: أن يكون الأدبان اللذان نقارن بينهما قد قامت بينهما صلة تاريخية. وتهتم المدرسة الفرنسية بتحقيق الصلة التاريخية بين الأدبين قبل أن تخوض في تفصيلات الدراسة المقارنة. أما إن لم تقم الأدلة أو القرائن على اتصال الأدبين، فليس هناك مجال للدراسة المقارنة. ومعنى ذلك أن المدرسة الفرنسية ترى إن الهدف من الدراسة المقارنة هو الكشف عن ميادين التأثير والتأثر. أما دراسة الفنون المتناظرة في الآداب المختلفة التي لم يحدث بينها لقاء تاريخي، فلا ترى المدرسة الفرنسية لذلك كبير فائدة. لكننا نخالف رأي هذه المدرسة في هذا الاتجاه.
  ونستطيع بعد هذه المناقشة أن نتقدم لذكر أمثلة في موضوعات الأدب المقارن، وفق مفهوم المدرسة الفرنسية. إن الأدب المقارن عند أساتذة المدرسة الفرنسية يهدف إلى بيان نواحي التلاقي بين الأدب القومي لإحدى الأمم، وغيره في آداب الأمم الأخرى، مبينا جوانب التأثير والتأثر، مستعينا في كل ذلك بما تؤيده وثائق التاريخ من تلاق بين الأمم مكّن لها من أن تبادل فيما بينها هذا التأثير والتأثر.
هذا الاتجاه العام للأدب المقارن يتضمن أيضا الدخول في كل التفصيلات التي تنطوي تحته. فليس المقصود دراسة الأفكار أو التأثيرات المتبادلة بين أدبين أو أكثر فحسب، بل يدخل في ذلك دراسة الأنواع الأدبية عند الأمم التي تلاقت آدابها وثقافاتها.
ويدخل في دراسات الأدب المقارن ما قد تتبادله الآداب من قيم وتقاليد فنية. إن عملا مثل كتاب الشعر لأرسطو[3] بما انطوى عليه من قيم ومفهومات كان له أعمق الأثر على نقاد الأدب من الرومان. ثم كان له بعد ذلك أثره العميق على الآداب الأوروبية في عصر النهضة. وربما امتد أثره بعد ذلك بقرون. كما أن من الأدب المقارن ما يتناول دراسة المذاهب الفنية التي شاعت في أكثر من أدب واحد، فلكي نلم بالخصائص الفنية لمذهب الرومانسية الذي ازدهر في أوروبا في القرن التاسع عشر لا بد أن ندرس الومانسية المختلفة. وهكذا الشأن بالنسبة للمذهب الواقعي والمذهب الطبيعي.
ولايقتصر مجال الأدب المقارن على هذه المذاهب الفنية العامة، وإنما هو يتناول موضوعات محددة لقصة من القصص عرفت في أحد الآداب، ثم تناولها شاعر ينتمي لأدب آخر، وكتبها بلغة هذا الأدب. وهناك كثير من الموضوعات الكلاسيكية التي تناولها أدباء ينتمون للآداب الأوروبية الحديثة، فموازنة الأصول الكلاسيكية بما يناظرها في الآداب الأوروبية الحديثة يدخل في مجال بحث الأدب المقارن.
ومن أمثلة ذلك عندنا قصة ليلى والمجنون، فهذه القصة التي تدور حول محبة قيس لابنة عمه ليلى قد انتقلت إلى الأدب الفارسي، ونظمها عدد من شعراء الفرس منهم نظامي الكنجوى وعبد الرحمن الجامي، فالدراسة المقارنة لقصة ليلى والمجنون في أصولها العربية وفي منظومات شعراء الفرس، تعد في حد ذاتها موضوعا طريفا من موضوعات الأدب المقارن[4].
وفي الأدب العربي عدد من الشعراء عبروا عن التصوف الاسلامي بإنتاج أدبي يتمثل في نماذج شعرية أو نثرية. وكذلك الأدب الفارسي وجد به كثير من الشعراء الذين عبروا عن هذا التصوف نفسه بنماذج شعرية أو نثرية. فالدراسة المقارنة لما كتبه شعراء العرب من شعر صوفي وما كتبه الفرس من شعر صوفي يمكن أن تعد موضوعا خصبا من موضوعات الأدب المقارن.
إن الأدب الفارسي الاسلامي قد اقتبس الكثير من الأدب العربي[5] فأوزان الشعر العربي قد انتقلت إلى الشعر الفارسي، لكن الفرس لم يحافظوا على هذه الأوزان كما هي بل أدخلوا عليها بعض التعديلات التي تلائم لغتهم وطوروها بعض التطوير. كما أن اللغة الفارسية قد اقتبست الكثير من المفردات والتعبيرات من اللغة العربية.
وهذه الأمور التي نتحدث عنها تعد حقائق مقررة، ولعل تدريس اللغة اللاتينية في المدارس الأوروبية، في مرحلة التعليم الثانوي، أو تدريس اللغة العربية في مدارس إيران، بوصفها جزءا من مواد التعليم العام، توضح لنا مدى الاهتمام الذي يشعر به القائمون على التعليم في تلك البلاد من حاجة إلى بيان الأصول أو الروابط التي ارتبطت بها آدابهم في عصورها المختلفة مع غيرها في الآداب.
وهناك حلات لا يتحقق فيها التأثير والتأثر في عملين فنيين بينهما بعض الشبه، ومع ذلك يقوم الأدب المقارن بالبحث فيهما، ملتمسا ما عساه يهتدي إليه من تأثير وتأثر. وقد ينتهي البحث إلى التحقق من وجود صلة بين العملين الفنيين. كما أنه قد ينتهي إلى أنه لا توجد بينهما صلة على الاطلاق. فنحن نرى إذن أن الأدب المقارن قد تتسع أبحاثه فيتناول أدبين نشأ أحدهما في أحضان الآخر.
والخلاصة إن الأدب المقارن يمكن أن يتناول بالدرس أحد المجالات الآتية:
1)    تحقيق التاريخ الأدبي لأمة من الأمم، وذلك في بيان عوامل التأثير والتأثر التي قامت بين أدب تلك الأمة وغيرها من الأمم.
2)    دراسة أحد الشعراء أو الكتاب دراسة نقدية تبين نواحي التأثير أو التأثر بالآداب الأجنبية عند هذا الشاعر والكاتب، ذلك لأن الأدب المقارن يؤدي إلى اكتشاف المصادر التي تأثر بها أو نقل عنها، كما أنه في الوقت نفسه يبين أثره على من قرأوه وتأثروا بفنه.
3)    الالمام إلماما واضحا بتطور فن مهم كالنقد الأدبي، ذلك لأن هذا النقد ظهر أول الأمر عند اليونان القدماء، ثم انتقل من اثينا إلى الاسكندرية فكانت له مذاهبه. وعاد فانتقل إلى روما فأثر في نقادها وشعرائها، وظهر من جديد في عصر النهضة.
4)    دراسة نوع أدبي دراسة تاريخية محققة، تهدف إلى بيان الاصالة والتقليد، وتكشف عن تطور النوع الأدبي في مختلف الآداب تطورا تاريخيا يتتبع انتقال هذا النوع الأدبي من أمة إلى أخرى، خلال العصور. فيمكن مثلا دراسة المأساة "التراجيديا"عند اليونان، ثم تدرس المأساة عند الرومان ونأتي بعد ذلك إلى الآداب الأوروبية التي اقتبست هذا الفن عن الآداب الكلاسيكية بعد عصر النهضة.
5)    تتبع قصة انسانية أو أسطورة عولجت في آداب مختلفة فمن القصص اليونان ما عولج في عدد من الآداب الأوروبية ومن الأساطير ما لقي اهتماما خارج بيئته الأصلية. ومن حوادث التاريخ ما اهتم به أدباء يكتبون بلغات مختلفة في أزمان متباينة.
6)    دراسة مذهب أدبي ظهر في عدد من الآداب المختلفة، فمن الممكن دراسة المذهب الرومانسي وأثره على آداب أوروبا. وهكذا الشأن بالنسبة للمذاهب الفنية الأخرى التي ظهرت آثارها في أكثر من أدب.
7)    دراسة شاعر أو أديب تجاوزت آثاره حدود أدبه القومي وبيان ما كان لهذه الآثار من فاعلية في آداب الأمم الأخرى.
8)    هذه الحالات التي ذكرناها إنما هي على سبيل التمثيل لا الحصر، فمن المستطاع أن نمضي في ذكر المجالات التي تتسع لدراسات الأدب المقارن، فنصل في تعداد هذه الحالات إلى أضعاف ما ذكرنا، لكنا على كل حال لن نستطيع لها حصرا.
9)    يمكن أن تتناول الدراسات المقارنة – وفق المفهوم الأمريكي – أية دراسة تقارن بين الأدب وغيره من الفنون أو تبحث العلاقة بين الأدب وغيره من الدراسات الانسانية. فموضوع مثل الأدب وعلم النفس يعد – وفق هذه النظرة الواسعة – من دراسات الأدب المقارن. وعلى هذا فإن دراسات الأدب المقارن يمكن أن تتسع لأبحاث لا نستطيع لها حصرا.
المصادر والمراجع:
1)       أبو هلال العسكري – كتاب الصناعتين.
2)       أرسطو – كتاب الشعر.
3)       قصة مجنون ليلى – النص الأصلي – النص الفارسي – ومسرحية أحمد شوقي.
4)       فؤاد الصياد – محاضرات في الأدب المقارن – بيروت 1968.
5)       شوقي ضيف – الفن ومذاهبه في الشعر العربي.
6)       هوراس – فن الشعر: ترجمة لويس عوض – القاهرة 1947.
7)       Comparative Literature: Method and Perspective Ed. By Newton.
8)      Rene Wellek and Austin Warren: Theory of Literature.
    


 أبو هلال العسكري – كتاب الصناعتين – صفحة 35[1]  
[2] Comparative Literature: Method and Perspective Ed. By Newton
 أرسطو – كتاب الشعر – ص 135 وما بعدها.[3]
 قصة مجنون ليلى – النص الأصلي – النص الفارسي – ومسرحية أحمد شوقي.[4]
 فؤاد الصياد – محاضرات في الأدب المقارن – بيروت 1968.[5]